فصل: تفسير الآيات (1- 2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (8- 14):

{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)}
وقولُه تعالَى: {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديدٌ للطاغي وتحذيرٌ لَهُ عنْ عاقبةِ الطغيانِ والالتفاتُ للتشديدِ في التهديدِ والرُّجعى مصدرٌ بمعنَى الرُّجوعِ كالبشرى، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ أيْ إنَّ إلى مالكِ أمركِ رجوعَ الكُلِّ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيرهِ استقلالاً ولا اشتراكاً فسترى حينئذٍ عاقبةَ طُغيانِكَ وقوله تعالى: {أَرَءَيْتَ الذي ينهى * عَبْداً إِذَا صلى} تقبيحٌ وتشنيعٌ لحالهِ وتعجيبٌ منهَا وإيذانٌ بأنَّها منَ الشناعةِ والغرابةِ بحيثُ يجبُ أنْ يَراهَا كُلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ ويقضي منهَا العجبَ. رُوي أن أبَا جهلٍ قالَ في ملأٍ من طُغاةِ قريشٍ لئِنْ رأيتُ محمداً يُصلي لأطأنَّ عنقَهُ فرآهُ عليهِ السَّلامُ في الصَّلاةِ فجاءَهُ ثُمَّ نكصَ عَلى عقبيهِ فقالوا: ما لكَ؟ قال: إن بيني وبينهُ لخندقاً منْ نارٍ وهولاً وأجنحةً فنزلتْ ولفظُ العبدِ وتنكيرُه لتفخيمِه عليهِ السَّلامُ واستعظامِ النَّهي وتأكيدِ التعجبِ منْهُ والرؤيةُ هاهنا بصريةٌ وَأمَّا مَا فِي قولِه تعالى: {أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى * أَوْ أَمَرَ بالتقوى} ومَا في قولُه تعالَى: {أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} فقلبيةٌ معناهُ أخبرني فإنَّ الرؤيةَ لما كانت سبباً للإخبارِ عنِ المَرئي أجرى الاستفهامُ عنْهَا مجرى الاستخبارِ عنْ متعلَّقها والخطابُ لكلِّ منْ صلُحَ للخطابِ، ونظمُ الأمرِ والتكذيبِ والتولِّي في سلكِ الشرطِ المترددِ بينَ الوقوعِ وعدمهِ ليسَ باعتبارِ نفسَ الأفعالِ المذكورةِ منْ حيثُ صدورُها عن الفاعلِ فإنَّ ذلكَ ليسَ في حيزِ الترددِ أصلاً بلْ باعتبارِ أوصافها التي هِيَ كونُها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً كَمَا في قولُه تعالَى: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ} كَمَا مرَّ والمفعولُ الأولُ لأرأيتَ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ إلى الموصولِ أو اسمُ إشارةِ يُشارُ بهِ إليهِ ومفعولُه الثاني سدَّ مسدَّهُ الجملةُ الشرطيةُ بجوابها المحذوفِ فإنَّ المفعولَ الثاني لأرأيتَ لا يكونُ إلا جملةً استفهاميةً أو قسميةً والمعَنى أخبرني ذلك الناهي إن كانَ على الهُدى فيمَا ينهي عَنْهُ منْ عبادةِ الله تعالى أوْ آمراً بالتَّقوى فيمَا يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدُه أوْ مكذباً للحقِّ مُعرضاً عن الصَّوابِ كَما نقولُ نحنُ: {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} أيْ يطلعُ على أحوالِه فيجازيَهُ بِهَا حتَّى اجترأ على ما فعلَ وإنَّما أفردَ التكذيبَ والتولِّي بشرطيةٍ مستقلةٍ مقرونةٍ بالجوابِ مصدرةٍ باستخبارٍ مستأنفِ ولم ينظمَا في سلكِ الشرطِ الأولِ بعطفهما على كانَ للإيذانِ باستقلالهما بالوقوعِ في نفسِ الأمرِ واستتباعِ الوعيدِ الذي ينطقُ بهِ الجوابُ، وأما القسمُ الأولُ فأمرٌ مستحيلٌ قد ذكرَ في حيز الشرطِ لتوسيعِ الدائرةِ وهو السرُّ في تجريدِ الشرطيةِ الأولى عنِ الجوابِ والإحالةِ بهِ على جوابِ الثانيةِ هَذا وقد قيلَ: أرأيتَ الأولُ بمعنى أخبرني مفعولُه الأولُ الموصولُ ومفعولُه الثاني الشرطيةُ الأولى بجوابها المحذوفِ لدلالةِ جوابِ الشرطيةِ الثانيةِ عليه وأرأيتَ في الموضعينِ تكريرٌ للتأكيدِ ومعناهُ أخبرني عمَّنْ ينهى بعضَ عبادِ الله عن صلاته إنْ كانَ ذلكَ النَّاهي علَى طريقةٍ سديدةِ فيما ينهى عنْ عبادةِ الله تعالى أوْ كانَ آمراً بالمعروفِ والتَّقوى فيما يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدهُ وكذلكَ إنْ كانَ على التكذيبِ للحقِّ والتولِّي عنِ الدينِ الصحيح كما نقولُ نحنُ ألم يعلمْ بأن الله يرى ويطلعُ على أحوالِه منْ هُداهُ وضلالهِ فيجازيَهُ عَلى حسبِ ذلكَ فتأملْ وقيلَ: المَعْنى أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً يُصلي والمُنهيُّ عنِ الهُدى آمرٌ بالتَّقوى والنَّاهي مكذبٌ مُتولي فما أعجبَ من ذَا، وقيلَ: الخطابُ الثاني للكافرِ فإنَّه تعالَى كالحاكمِ الذي حضَرهُ الخصمانِ يخاطبُ هذا مرةً والآخرَ أُخرى وكأنَّه قالَ: يا كافرُ أخبرني إنْ كانَ صلاتُه هُدى ودُعاؤُه إلى الله تعالى أمراً بالتَّقوى أتنهاهُ.
وقيلَ: هُو أميةُ بنُ خلفٍ كانَ ينْهى سلمانَ عنِ الصَّلاةِ.

.تفسير الآيات (15- 18):

{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)}
{كَلاَّ} ردعٌ للناهي اللعينِ وخسوءٌ لَهُ واللامُ في قولِه تعالَى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} موطئةٌ للقسمِ أي والله لئِن لَمْ ينتِه عَمَّا هُو عليهِ ولمْ ينزجرْ {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذنَّ بناصيتهِ ولنسحبنّهُ بِهَا إلى النَّارِ والسفعُ القبضُ على الشيءِ وجذبُه بعنفٍ وشدةٍ وقرئ: {لنسفعنَّ} بالنونِ المشددةِ وقرئ: {لأسفعنَّ} وكتبتهُ في المصحفِ بالألفِ عَلى حكمِ الوقفِ والاكتفاءُ بلامِ العهدِ عنِ الإضافةِ لظهورِ أنَّ المرادَ ناصيةُ المذكورِ {نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ} بدلٌ منَ الناصيةِ وإنَّما جازَ إبدالُها منَ المعرفةِ وهي نكرةٌ لوصفِها وقُرئَتْ بالرفعِ على هِيَ ناصيةٌ وبالنصبِ وكلاهُما على الذمِّ والشتمِ ووصفُها بالكذبِ والخطإِ على الإسنادِ المجازيِّ وهُمَا لصاحبها وفيهِ من الجزالةِ مَا ليسَ في قولِه ناصيةُ كاذبٍ خاطىءٍ {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أيْ أهلَ ناديهِ ليعينوهُ وهُو المجلسُ الَّذي ينتدي فيه القومُ أي يجتمعونَ. رُوي أنَّ أبَا جهلٍ مرَّ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهُو يُصلي فقالَ ألم أنهكَ فأغلظَ لَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: أتهددني وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً فنزلتْ: {سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النَّارِ والزبانيةُ الشرطُ، الواحدُ زبْنيةٌ كعفريةٍ من الزِّبنِ وهُوَ الدَّفعْ وقيلَ: زَبَنِي وكأنَّه نسبَ إلى الزبنِ ثُمَّ غير كأمْسى وأصلُها زَبَاني فقيلَ: زبانيةٌ بتعويضِ التاءِ عن الياءِ والمرادُ ملائكةُ العذابِ وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ دَعا ناديه لأخذتْهُ الزبانيةُ عياناً».

.تفسير الآية رقم (19):

{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}
{كَلاَّ} ردعٌ بعدَ ردعٍ وزجرٌ إثرَ زجرٍ {لاَ تُطِعْهُ} أيْ دُم عَلى مَا أنتَ عليهِ منْ معاصاتِه {واسجد} وواظبْ عَلى سجودِكَ وصلاتك غيرَ مكترثٍ بِه {واقترب} وتقربْ بذلك إلى ربِّكَ وفي الحديثِ أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه إذَا سجدَ.
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «منْ قَرأَ سورةَ العلقِ أُعطي منَ الأجرِ كأنَّما قرأَ المفصلَ كُلَّه».

.سورة القدر:

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)}
{إِنَّا أنزلناه فِي لَيْلَةِ القدر} تنويهٌ بشأنِ القرآنِ الكريمِ وإجلالٌ لمحلِه بإضمارِهِ المُؤذنِ بغايةِ نباهتِهِ المغنيةِ عن التصريحِ بهِ كأنهُ حاضرٌ فِي جميعِ الأذهانِ وبإسنادِ إنزالِه إلى نونِ العظمةِ المنبىءِ عنْ كمالِ العنايةِ بهِ وتفخيمُ وقتِ إنزالِه بقولِه تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} لما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى أنَّ علوِّ قدرِها خارجٌ عنْ دائرةِ درايةِ الخَلْقِ لا يدريَها وَلاَ يدريَها إلاَّ علاَّمُ الغيوبِ كمَا يُشعِرُ بهِ قولُه تعالَى: {لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فإنهُ بيانٌ إجماليٌّ لشأنها إثرَ تشويقهِ عليهِ السلامُ إلى درايتها فإنَّ ذلكَ معربٌ عنِ الوعدِ بإدرائها وقدْ مرَّ بيانُ كيفيةِ إعرابِ الجملتينِ وفي إظهارِ ليلةِ القدرِ في الموضعينِ منْ تأكيدِ التفخيمِ مَا لا يخفى والمرادُ بإنزالِه فيها إمَّا إنزالُ كُلِّه إلى السماءِ الدُّنيا كَما رُوي أنَّه أُنزل جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ إلى السماءِ الدُّنيا وأملاهُ جبريلُ عليهِ السلامُ على السَّفرةِ ثُمَّ كانَ ينزلهُ على النبيِّ عليهِ السَّلامُ نجوماً في ثلاثِ وعشرينَ سنةً وإمَّا ابتداءُ إنزالِه فيها كما نُقلَ عن الشَّعبيِّ. وقيلَ: المَعْنى أنزلناهُ في شأنِ ليلةِ القدرِ وفضلِها كَما في قولِ عمرَ رضي الله عنهُ: خشيتُ أن ينزلَ فيَّ قرآن، وقولِ عائشةَ رضيَ الله عنها: لأنَا أحقرُ في نفسي منْ أن ينزلَ فيَّ قرآن فالأنسبُ أن يجعلَ الضميرُ حينئذٍ للسورةِ التي هيَ جزءٌ من القرآنِ لا للكُلِّ واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهرِ رمضانَ في العشرِ الأواخرِ في أوتارِها وأكثرُ الأقوالِ أنها السابعةُ منها ولعلَّ السرِّ في إخفائها تعريضُ منْ يريدُها للثوابِ الكثير بإحياءِ الليالي الكثيرةِ رجاءً لموافقتها وتسميتُها بذلكَ إمَّا لتقدير الأمورِ وقضائها فيها لقولِه تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أو لخطرها وشرفها على سائرِ الليالي وتخصيصُ الألفِ بالذكرِ إمَّا للتكثيرِ أوْ لمَا رُوي أنه عليهِ السَّلامُ ذكرَ رجلاً من بني إسرائيلَ لبسَ السلاحَ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ فعجبَ المؤمنونَ منه وتقاصرتْ إليهم أعمالهم فأعطوا ليلةً هيَ خير منْ مدةِ ذلكَ الغازي وقيلَ: إنَّ الرجلَ فيما مَضَى مَا كانَ يقالُ لَهُ عابدٌ حَتَّى يعبدَ الله تعالى ألفَ شهرٍ فأعطوا ليلةً إنْ أحيوْها كانُوا أحقَّ بأن يُسمَّوا عابدينَ من أولئكَ العبادِ، وقيلَ: أُري النبيُّ عليهِ السَّلامُ أعمارَ الأممِ كافةً فاستقصرَ أعمارَ أمتِه فخافَ أنْ لا يبلغوا من العملِ مثلَ ما بلغَ غيرهم في طولِ العمرِ فأعطاهُ الله ليلةَ القدرِ وجعلها خيراً منْ ألفِ شهرٍ لسائرِ الأممِ، وقيلَ: كانَ ملكُ سليمانَ خمسمائةَ شهرٍ وملكُ ذي القرنينِ خمسمائةَ شهرٍ فجعلَ الله تعالَى العملَ في هذهِ الليلةِ لمنْ أدركها خيراً منْ مُلكِهِمَا.

.تفسير الآيات (4- 5):

{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}
وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} استئنافٌ مبينٌ لمناطِ فضلِها على تلكَ المدةِ المتطاولةِ وقد سبقَ في سورةِ النبأ ما قيلَ في شَأنِ الروحِ عَلى التفصيلِ وقيلَ: هم خلقٌ منَ الملائكةِ لا يراهُم الملائكةُ إلا تلكَ الليلةَ أيْ تنزلُ الملائكةُ والروحُ في تلكَ الليلةِ منْ كُلِّ سماءٍ إلى الأرضِ أوْ إلى السماءِ الدُّنيا {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقٌ بتنزلُ أوْ بمحذوفٍ هُو حالٌ من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بإذنِ ربهم أيْ بأمرِه {مّن كُلّ أَمْرٍ} أي من أجلِ كُلِّ أمرٍ قضاهُ الله عزَّ وجلَّ لتلكَ السنةِ إلى قابلِ كقولِه تعالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وقرئ: {منْ كُلِّ امرىءٍ} أيْ منْ أجلِ كل إنسانٍ، قيلَ: لا يلقونَ فيها مؤمناً مؤمنةً إلا سلمُوا عليهِ {سلام هِىَ} أيْ مَا هيَ إلا سلامةٌ أيْ لا يقدرُ الله تعالى إلا السلامةَ والخيرَ وأمَّا في غيرِها فيقضي سلامةً وبلاءً أوْ ما هيَ إلا سلامٌ لكثرةِ ما يسلمونَ فيها على المؤمنينَ {حتى مَطْلَعِ الفجر} أيْ وقتِ طلوعِه وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ كالمرجعِ أو اسمُ زمانٍ على غيرِ قياسٍ كالمشرِقِ وحتَّى متعلقةٌ بتنزلُ على أنها غايةٌ لحكمِ التنزلِ أي لمكثِهمْ في محلِ تنزلِهم أو لنفسِ تنزلهم بأنْ لا ينقطعَ تنزلُهم فوجاً بعدَ فوجٍ إلى طلوعِ الفجرِ، وقيلَ: متعلقةٌ بسلامٍ بناءً على أنَّ الفصلَ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ مغتفرٌ في الجارِّ.
عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرأَ سورةَ القدرِ أعطي من الأجرِ كَمَنْ صامَ رمضانَ وأَحْيَا ليلةَ القدرِ».

.سورة البينة:

.تفسير الآيات (1- 2):

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)}
{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} أي اليهودُ والنَّصارَى وإيرادُهم بذلكَ العنوانِ للإشعارِ بعلةِ ما نُسبَ إليهمْ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ فإنَّ مناطَ ذلكَ وجدانُهم لَهُ في كتابِهم وَإِيرادُ الصلةِ فعلاً لما أنَّ كُفرهم حادثٌ بعدَ أنبيائِهم {والمشركين} أيْ عبدةِ الأصنامِ وقرئ: {وَالمشركونَ} عطفاً على الموصولِ {مُنفَكّينَ} أي عمَّا كانُوا عليهِ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ والعزمِ على إنجازِه وهَذَا الوعدُ من أهلِ الكتابِ مما لا ريبَ فيه حَتَّى إنَّهم كانُوا يستفتحونَ ويقولونَ: اللهمَّ افتحْ علينَا وانصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ ويقولونَ لأعدائِهم منَ المشركينَ: قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرمَ وأما منَ المشركينَ فلعلَّهُ قدْ وقعَ من متأخريهمْ بعدَ مَا شَاعَ ذلكَ من أهلِ الكتابِ واعتقدوا صحتَهُ بَمَا شاهدُوا من نصرتهم على أسلافهم كما يشهدُ به أنهم كانوا يسألونهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هلْ هُوَ المذكورُ في كتابِهم وكانوا يغرونَهُم بتغييرِ نعوتِه عليهِ السَّلامُ وانفكاكُ الشيءِ أنْ يزايَلَهُ بعدَ التحامِه كالعظمِ إذا انفكَّ من مفصلِه وفيهِ إشارةٌ إلى كمالِ وكادةِ وعدِهم أيْ لم يكُونوا مفارقينَ للوعدِ المذكورِ بلْ كانُوا مجمعينَ عليهِ عازمينَ على إنجازِه {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} التي كانُوا قد جعلوا إتيانها ميقاتاً لاجتماعِ الكلمةِ والاتفاقِ عَلى الحقِّ فجعلوه ميقاتاً للانفكاكِ والافتراقِ وإخلافِ الوعدِ والتعبيرُ عن إتيانِها بصيغةِ المضارعِ باعتبارِ حالِ المحكيِّ لا باعتبارِ حالِ الحكايةِ كما في قولِه تعالَى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} أي تلتْ وقوله تعالى: {رَّسُولٍ} بدلٌ منَ البينةِ عبرَ عنه عليهِ السَّلامُ بالبينةِ للإيذانِ بغاية ظهورِ أمرِهِ وكونِه ذلكَ الموعودَ في الكتابينِ وقولُه تعالى: {مِنَ الله} متعلقٌ بمضمرٍ هو صفةٌ لرسولٍ مؤكدٍ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ منْهُ وقولُه تعالى: {يَتْلُو} صفة أخرى أو حال من الضمير في متعلق الجارِّ {صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} أيْ منزهةً عنِ الباطلِ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلقِهِ أو من أنْ يمسَّهُ غيرُ المطهرينَ ونسبةُ تلاوتِها إليه عليهِ السلامُ منْ حيثُ إنَّ تلاوةَ مَا فيها بمنزلةِ تلاوتِها.

.تفسير الآيات (3- 5):

{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
وقولُه تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} صفةٌ لصحفاً أوْ حالٌ منْ ضميرِها من مطهرةٍ ويجوزُ أنْ يكونَ الصفةُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فَقَطْ وكتبٌ مرتفعاً بِه على الفاعليةِ ومَعْنى قيمةٌ مستقيمةٌ ناطقةٌ بالحقِّ والصوابِ. وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلخ كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ وتغليظِ جناياتِهم ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ وتبينِ الحالِ وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبىءِ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلاوُ بعدَ ذكِرَهم فيما سبقَ بما هُوَ جارٍ مَجْرَى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ ولَمَّا كانَ هؤلاءِ وَالمشركونَ باعتبارِ اتفاقِهم عَلَى الرأي المذكورِ في حكمِ فريقٍ واحدٍ عبرَ عَمَّا صدرَ عنهمْ عقيبَ الاتفاقِ عندِ الإخبارِ بوقوعِه بالانفكاكِ وعندَ بيانِ كيفيةِ وقوعِه بالتفرقِ اعتبارِ الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي أخر بل بطريق الاختلاف القديم وقولُه تعالى.
{إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إلا منْ بعدِ ما جاءتُهمْ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها كقولِه تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} جملةٌ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ قبحِ ما فعلُوا أيْ والحالُ أنَّهم ما أُمِرُوا بَما أُمروا في كتابِهم إلا لأجلِ أنْ يعبدُوا الله، وقيلَ: اللامُ بمَعْنى أنْ أي إلا بأنْ يعبدُوا الله، ويعضدُه قراءةُ إلا أنْ يعبدُوا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي جاعلينَ دينَهُم خَالِصاً له تعالَى أو جاعلينَ أنفسَهُم خالِصةً لَهُ تعالَى في الدِّينِ. {حُنَفَاء} مائلينَ عن جميعِ العقائدِ الزائغةِ إلى الإسلامِ {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكواة} إنْ أُريدَ بهما ما في شريعتِهم من الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما في شريعتِنا فمَعْنى أمرِهم بهما في الكتابينِ أنَّ أمرَهُم باتباعِ شريعتِنا أمرٌ لهم بجميعِ أحكامِها التي هُمَا من جُملتها.
{وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من عبادةِ الله تعالى بالإخلاصِ وإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعدِ منزلتِه. {دِينُ القيمة} أي دينُ الملةِ القيمةِ، وقرئ: {الدينُ القيمةُ} على تأويلِ الدينِ بالملةِ. هذا وقد قيلَ: قولُه تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى قولِه كتبٌ قيمةٌ حكايةٌ لما كانُوا يقولونَهُ قبلَ مبعثِه عليهِ السَّلامُ من أنَّهم لا ينفكونَ عنْ دينِهم إلى مَبْعثِه ويعدون أنْ ينفكُّوا عنه حينئذٍ ويتفقوا على الحقِّ وقولُه تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيانٌ إلخ لإخلافِهم الوعدَ وتعكيسِهم الأمرَ بجعلِهم ما هُو سببٌ لانفكاكِهم عن دينِهم الباطلِ حسبَما وعدُوه سبباً لثباتِهم عليهِ وعدمِ انفكاكِهم عنه ومثلُ ذلكَ بأنْ يقولَ الفقيرُ الفاسقُ لمن يعظهُ لا أنفكُّ عمَّا أنَا فيه حتَّى أستغني فيستغني فيزدادُ فسقاً فيقولَ له واعظُه لم تكنْ منفكَّاً عن الفسقِ حتى توسرَ وما عكفتَ على الفسقِ إلا بعدَ اليسارِ، وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا إنَّما يتسنّى بعد اللَّتيا والتي على تقديرِ أنْ يرادَ بالتفرقِ تفرقُهم عن الحقِّ بأنْ يقال التفرقُ عن الحقِّ مستلزمٌ للثباتِ على الباطلِ فكأنَّه قيلَ: وما أجمعُوا على دينِهم إلا منْ بعدِ ما جاءتْهُم البينةُ وأما على تقديرِ أنْ يُرادَ به تفرقُهم فرقاً فمنُهم من آمنَ ومنُهم من أنكرَ ومنُهم من عرفَ وعاندَ كَمَا جوَّزه القائلُ فلا فتأملْ.